فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشعراوي:

{قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} وقوله: {أَفِي الله شَكٌّ...} [إبراهيم: 10] هو لوْن من الخطاب الذي لا يترك لمَنْ توجه إليه الكلام أنْ يُجيب إلا كما تريد أنت. وأنت لا تفعل ذلك إلا إذا كُنْتَ واثقًا من أن مَنْ تُوجَّه إليه الكلام سيجيب- إنِ استحضرَ الحق في ذهنه- كما تريد أنت.
ولذلك لم يَأْتِ الخطاب هنا بقوله لا شك في الله وبذلك يكون الكلام خبريًا، وقد يقول واحد: إن هذا الكلام كاذب، ولكن على الرغم من أن المستمعين من الكفار، إلا أنه يأتي بالقضية في شكل تساؤل يستأمنهم على أنهم سوف يُديرون الكلام في رؤوسهم، وسيعثرون على الإجابة التي لا يمكن أنْ ينكرونها؛ وهي ليس في الله شك.
وهكذا نجد أن القائل قد سكتَ عن إعلانهم الكفرَ أولًا؛ وجاء لهم بالتساؤل الذي سيجيبون عليه ليس في الله شك، ويأتي لهم بالدليل الذي لا يحتمل أيَّ شكٍّ، وهو قوله الحق: {فَاطِرِ السماوات والأرض...} [إبراهيم: 10].
والفاطر هو الذي خلق خَلْقًا على غير مثال سابق، مثلها مثل قوله الحق: {بَدِيعُ السماوات والأرض...} [البقرة: 117].
فلا أحدَ قادرٌ على أن يخلقَ مثل السماوات والأرض؛ وهي مخلوقة على غير مثال سابق. وسبحانه هو مَنْ شاء أن يكون الإنسان سيدًا لكل الكائنات المخلوقة، وأن تكون تلك الكائنات مُسخّرة لخدمته.
وقد يتخيل الإنسان أن خَلْقه أكبر من خَلْق السماوات والأرض؛ لذلك يُنبِّهه الحق سبحانه: {لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس...} [غافر: 57].
ولو نظرت إلى الشمس وسألتَ نفسك؛ كم من الأجيال قد استمتعوا بدفْئها واستفادوا منها؛ فمن المؤكَّد أنك لن تعرف عدد الأجيال؛ لأن الشمس مخلوقة من قَبْل خَلْق البشر، وكل إنسان يستمتع بالشمس ويستفيد منها عدد سنوات حياته، ثم يذهب إلى الموت.
ونجد المفسر الجليل الفخر الرازي يضرب المَثل الذي لا يمكن أن يُنكِره أحد، ويدلُّ على الفطرة في الإيمان، ويُوضِّح أن الحق سبحانه لم يُمهل الإنسان إلى أنْ ينضجَ عقله ليشعر بضرورة الإيمان، ويضرب المثل بطفل صغير تسلَّل، وضرب شقيقه؛ هنا لابد أن يلتفتَ الشقيق ليكتشف مَنِ الذي ضربه؛ لأن الإنسان من البداية يعلم أنْ لا شيءَ يحدث إلا وله فاعل.
وهَبْ أن طفلًا جاء ليجد شقيقه جالسًا على كرسي، وهو يريد أن يجلس على نفس الكرسي؛ هنا سيقوم الطفل بشدِّ وجَذْب أخيه من على الكرسي ليجلس هو، وكأنه اكتشف بالفطرة أن اثنين لا يمكن أن يستوعبهما حَيِّز واحد.
وهكذا يتوصل الإنسان بالفطرة إلى معرفة أن هناك خالقًا أوحد. وهكذا نجد قوله الحق: {فَاطِرِ السماوات والأرض...} [إبراهيم: 10].
هو الآية الكونية الواسعة. ويأتي من بعد ذلك بالقول: {يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ...} [إبراهيم: 10].
وهذا القول يدل على الرحمة والحكمة والقدرة والحنان؛ وهو هنا يقول:
{لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ} [إبراهيم: 10].
ولم يَقُلْ: يغفر لكم ذنوبكم؛ ذلك أنه يخاطب الكفار؛ بينما يقول سبحانه حين يخاطب المؤمنين: {يا أيها الذين آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ على تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ...} [الصف: 10-12].
وهكذا لا يساوي الحقُّ سبحانه في خطابه بين المؤمنين والكافرين.
أو: أن المقصود من قوله: {لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ...} [إبراهيم: 10].
هو غفران الكبائر: ذلك أن صغائر الذنوب إنما يغفرها أداء الفرائض والعبادات؛ فنحن نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن ما لم تُغْشَ الكبائر».
ويتابع سبحانه: {وَيُؤَخِّرَكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى...} [إبراهيم: 10].
وكلنا نعرف أن الأجل هو الزمن المضروب والمُقرر للحدثِ. وإن شاء الحق سبحانه الإبادة فنجد ما يدل عليه قوله الحق: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض} [القصص: 81].
كما فعل مع قارون.
أو: أن قوله: {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى...} [إبراهيم: 10] مقصود به يوم القيامة.
ولكن الكفار أهل لَدَد وعناد، لذلك نجد قولهم: {قالوا إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} [إبراهيم: 10].
وهكذا يعلن أهل الكفر لرسلهم أنهم يُفضِّلون أن يكونوا أهل تقليد للآباء، ولو أنهم فكَّروا لَعِلموا أن التقليد لو شاع في المجتمعات لَما ارتقى أحدٌ عن آبائه وأجداده، فالعالم يتطور من تمرُّد جيل على جيل سابق، فلماذا يُصِرّ هؤلاء الكافرون على أن يحتفظوا بتقليد الآباء والأجداد؟
وإذا كان الأبناء يتطورون في كل شيء، فلماذا يحتفظ هؤلاء الكفار بتقليد الآباء في العقائد؟
ولا يكتفي أهل الكُفْر بذلك، بل يطلبون أن يأتيَ لهم الرسل بسلطان مبين، والسلطان يُطلق مرَّة على القهر على الفعل، ويكون الفاعل المقهور كارهًا للفعل.
ومرّة يطلق على الحجة التي تُقنع بالفعل، ويكون الفاعل مُحِبًا لما يَقْدُم عليه، والدين لا يمكن أن ينتشر قهرًا؛ بل لابد أن يُقبل الإنسان على الدين بقلبه، وذلك لا يأتي قهرًا.
لذلك نجد القول الحق: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي...} [البقرة: 256].
وما دام الرُّشدْ قد ظهر فالإكراه لا مجالَ له؛ لأن الذي يُكْره على شيء لا يمكن له أن يعتنق ما يُكره عليه.
وإذا ما دخل الإنسان الدين فعليه أن يلتزَم بما يُكلِّف به الدين؛ ولذلك فالإنسان لا يمكن أن يدخل إلى الدين مُكْرهًا، بل، لابد أن يدخله على بصيرة.
ويأتي الحق سبحانه بعد ذلك بما قاله الرسل ردًا على قَوْل أهل الكفر: {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ...}.
وهكذا أوضح الرسل لأقوامهم: نحن بشر مثلكم، والسلطان الذي نملكه هو المعجزة التي اختص بها الحق سبحانه كُلَّ رسول، والحق سبحانه هو الذي يتفضَّل على عباده؛ فيختار منهم الرسول المناسب لكل قوم؛ ويرسل معه المعجزة الدالة على تلك الرسالة؛ ويقوم الرسول بتبليغ كل ما يأمر به الله.
وكل رسول إنما يفعل ذلك ويُقبِل عليه بكل الثقة في أن الحق سبحانه لن يخذله وسينصره؛ فسبحانه هو القائل: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} [الصافات: 173].
ويخبرنا سبحانه بطمأنة الرسول ومَنْ معه لحظةَ أن تزلزلهم جِسَام الأحداث؛ وتبلغ قلوبهم الحناجر، ويتساءلون: {متى نَصْرُ الله...} [البقرة: 214].
فتأتي أخبار نَصرْ الحق سبحانه لرسله السابقين لطمأنه المؤمنين، ونجد الحق سبحانه هنا يقول: {وَعلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} [إبراهيم: 11].
هكذا أعلن كل رسول لِمَنْ آمن به من قومه، فعلَى الله وحده يتوكَّل المؤمنون، ويُفوَّضون كل أمورهم إليه وحده؛ صَبْرًا على معاندة الكافرين، وثِقةً في أنه سبحانه ينصر مَنْ أبلغوا رسالته ومنهجه، وينصر معهم مَنْ آمنوا بالمنهج والرسالة.
وينقل لنا الحق سبحانه بقية ما قاله الرسل لأقوامهم: {وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى الله...}.
ونلحظ أن الحق سبحانه قد وصف المُتوكِّلين في نهاية الآية السابقة بأنهم المؤمنون؛ وهنا يَصفُهم في نهاية هذه الآية بأنهم المتوكِّلون؛ لأن صفة الإيمان تدخل في صفة التوكل ضِمنًْا.
ونعلم أن هناك فارقًا بين التوكل والتواكل؛ فالتوكل يعني أن تستنفد أسباب الله المَمْدودة؛ لأن التوكل عمل القلوب؛ بعد أن تُؤدِّي الجوارحُ ما عليها من عمل وأخْذ بالأسباب؛ فالجوارح تعمل والقلوب هي التي تتوكل. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} قوله: {وَإِذْ قَالَ موسى} الظرف متعلق بمحذوف هو أذكر، أي: اذكر وقت قول موسى، و: {إِذْ أَنجَاكُمْ} متعلق ب: {اذكروا} أي: اذكروا إنعامه عليكم وقت إنجائه لكم من آل فرعون، أو بالنعمة، أو بمتعلق عليكم، أي: مستقرة عليكم وقت إنجائه، وهو بدل اشتمال من النعمة مرادًا بها الإنعام أو العطية: {يَسُومُونَكُمْ سُوء العذاب} أي: يبغونكم، يقال سامه ظلمًا أي: أولاه ظلمًا، وأصل السوم الذهاب في طلب الشيء، وسوء العذاب: مصدر ساء يسوء، والمراد حبس العذاب السيء.
وهو استعبادهم واستعمالهم في الأعمال الشاقة، وعطف: {يُذَبّحُونَ أَبْنَاءكُمْ} على: {يَسُومُونَكُمْ سُوء العذاب} وإن كان التذبيح من جنس سوء العذاب؛ إخراجًا له عن مرتبة العذاب المعتاد حتى كأنه جنس آخر لما فيه من الشدّة، ومع طرح الواو كما في الآية الأخرى يكون التذبيح تفسيرًا لسوء العذاب: {وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ} أي: يتركونهنّ في الحياة لإهانتهنّ وإذلالهنّ: {وَفِى ذلكم} المذكور من أفعالهم: {بَلاء مِّن رَّبّكُمْ عَظِيمٌ} أي: ابتلاء لكم، وقد تقدّم تفسير هذه الآية في سورة البقرة مستوفى.
{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ}: {تأذن} بمعنى أذن، قاله الفراء، قال في الكشاف: ولابد في تفعل من زيادة معنى ليست في أفعل، كأنه قيل: وإذ أذن ربكم إيذانًا بليغًا تنتفي عنه الشكوك وتنزاح الشبه.
والمعنى: وإذ تأذن ربكم فقال: {لَئِن شَكَرْتُمْ} أو أجرى: {تأذن} مجرى قال، لأنه ضرب من القول.
انتهى.
وهذا من قول موسى لقومه، وهو معطوف على نعمة الله أي: اذكروا نعمة الله عليكم، واذكروا حين تأذن ربكم.
وقيل: هو معطوف على قوله: {إذ أنجاكم}، أي: اذكروا نعمة الله تعالى في هذين الوقتين، فإن هذا التأذن أيضًا نعمة.
وقيل: هو من قول الله سبحانه، أي: واذكر يا محمد إذ تأذن ربكم، وقرأ ابن مسعود: {وإذ قال ربكم} والمعنى واحد كما تقدم، واللام في لئن شكرتم هي الموطئة للقسم. وقوله: {لأَزِيدَنَّكُمْ} سادّ مسدّ جوابي الشرط والقسم، وكذا اللام في: {وَلَئِن كَفَرْتُمْ} وقوله: {إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ} سادّ مسدّ الجوابين أيضًا، والمعنى: لأن شكرتم إنعامي عليكم بما ذكر لأزيدنكم نعمة إلى نعمة تفضلًا مني. وقيل: لأزيدنكم من طاعتي. وقيل: لأزيدنكم من الثواب. والأوّل أظهر، فالشكر سبب المزيد، ولئن كفرتم ذلك وجحدتموه: {إن عذابي لشديد}، فلابد أن يصيبكم منه ما يصيب.
وقيل: إن الجواب محذوف، أي: ولئن كفرتم لأعذبنكم، والمذكور تعليل للجواب المحذوف. {وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن في الأرض جَمِيعًا} أي: إن تكفروا نعمته تعالى أنتم وجميع الخلق ولم تشكروها: {فَإِنَّ الله} سبحانه: {لَغَنِىٌّ} عن شكركم لا يحتاج إليه ولا يلحقه بذلك نقص: {حَمِيدٌ} أي: مستوجب للحمد لذاته لكثرة إنعامه، وإن لم تشكروه، أو يحمده غيركم من الملائكة.
{أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِكُمْ} يحتمل أن يكون هذا خطابًا من موسى لقومه، فيكون داخلًا تحت التذكير بأيام الله، ويحتمل أن يكون من كلام الله سبحانه ابتداء خطابًا لقوم موسى، وتذكيرًا لهم بالقرون الأولى وأخبارهم، ومجيء رسل الله إليهم، ويحتمل أنه ابتداء خطاب من الله سبحانه لقوم محمد صلى الله عليه وسلم تحذيرًا لهم عن مخالفته، والنبأ: الخبر، والجمع الأنباء، ومنه قول الشاعر:
ألم يأتيك والأنباء تنمي ** بما لاقت لبون بني زياد

و{قَوْمُ نُوحٍ} بدل من الموصول، أو عطف بيان: {وَعَادٍ وَثَمُودَ والذين مِن بَعْدِهِمْ} أي: من بعد هؤلاء المذكورين: {لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله} أي: لا يحصي عددهم ويحيط بهم علمًا إلاّ الله سبحانه، والموصول مبتدأ وخبره لا يعلمهم إلاّ الله، والجملة معترضة، أو يكون الموصول معطوفًا على ما قبله، ولا يعلمهم إلاّ الله اعتراض، وعدم العلم من غير الله إما أن يكون راجعًا إلى صفاتهم وأحوالهم وأخلاقهم ومدد أعمارهم، أي: هذه الأمور لا يعلمها إلاّ الله، ولا يعلمها غيره، أو يكون راجعًا إلى ذواتهم، أي: لا يعلم ذوات أولئك الذين من بعدهم إلاّ الله سبحانه.